إعادة صُنع مكان العمل لتعزيز الرابط الاجتماعي
علاقتنا بالمكان معقدة. فالمكان Space هو واحد من تلك المصطلحات التي يشعر كُثر منا بأننا نفهمها، لكننا نعاني لوصفه بأي قدر ولو بسيطاً من الدقة. في الأغلب يُتصوَّر على أنه مسافة Distance غير دقيقة، كما هي الحال في المكان بين الأشياء والأفراد، أو كمية Quantity، كما هي الحال في ”كم من المكان تبقى على القرص الصلب؟“، أو ”هل هناك مكان في غرفة المعيشة لمكتب؟“. والمكان موضوع ممارسة علمية، فضلاً عن أنه فرصة للسفر واستكشاف المجرات. وتعريفاتنا للمكان تعتمد حقاً على المكان الذي ننطلق نحن منه. ودعونا نواجه الأمر، معظمُنا ببساطةٍ يعتبر المكان مفروغاً منه– وهو أمر يحيط بنا ولا نوليه عموماً سوى القليل من الانتباه.
وكما جادل عدد من علماء الاجتماع بنحو مقنع، فإن المكان ليس مجرد بُعد خامل ثابت تُوضَع فيه ”الأشياء“ وتُنظَّم. فالمكان معروف لنا بفضل التفاعلات الاجتماعية التي تجعله مرئياً: المكان بلا شك هو سياسي واجتماعي بعمق. فالابتعاد ستَّ أقدام في أثناء ممارسة التباعد الاجتماعي يدفع بالجودة العلائقية بين الشخصية للمكان كي يكون ماثلاً في مقدمة الحوار ومركزه. وهو تذكير بأن مكاننا مشترك؛ هوائي هو هواؤكم، وما أضطلع به يؤثر في مكانك، والعكس بالعكس.
وبالنسبة إلى أولئك منا المحظوظين بما فيه الكفاية ممن تمكنوا من الاضطلاع بأعمالهم في إطار السلامة النسبية لأمكنتهم المنزلية على مدى العام الماضي، كان هناك شعور عام من الارتباك وعدم وجود حد واضح بين الحياة العملية والمنزلية.
ومع ذلك لم يكن أمام عديد من الأشخاص الآخرين خيار سوى النهوض كل يوم والذهاب إلى مكان العمل. فكروا لحظةً في أنواع القرب التي يواجهها مقدمو الرعاية في الموقع- المعلمون ومقدمو الرعاية الصحية وعمال النقل وموظفو المتاجر- يومياً نظراً إلى الكثافة اللازمة في أمكنة عملهم. يجب أن يتعاملوا مع عجزهم عن النأي كثيراً عن الآخرين، وما يترتب على ذلك من قلق من المرجح أن يغرسه ذلك في نفوسهم– سواء بسبب الظروف في مكان العمل وفي وسائل النقل (العامة في كثير من الأحيان) اللازمة لهم للوصول إلى العمل.
وقد أدى العامُ الماضي بجائحته إلى تضخيم أوجه عدم المساواة. وفي كثير من الحالات، كان أضعف الناس وأكثرهم تهميشاً– ولاسيما السود والسمر والنساء العاملات في قطاعات الخدمات– هم الذين واصلوا الاضطلاع بالعمل الأساسي وجهاً لوجه الذي استطاع الذين يعملون منا من المنزل تجنُّبَه بأمان. لقد استفدنا من العمل نفسه الذي عرَّض الآخرين لخطر. وتراجعنا بأمان في حين استمر الآخرون. وبهذا المعنى أصبح الجمود شكلاً من أشكال الامتياز حيث أصبح التنقل خطراً.
ولكن ليس عدم المساواة العرقية والجنسانية قصصاً جديدة. الجديد هو كيف تغيَّر وعيُنا المكاني نتيجة لقضاء العام الماضي في التفاوض على الأمكنة المتغيرة. ومن الجديد أيضا الوعي المتزايد بأن ”الوضع الطبيعي الجديد“ New normal لمجموعةٍ ما هو ”العمل كالمعتاد“ Business as usual لمجموعة أخرى، مع كل أوجه عدم المساواة التي ينطوي عليها ذلك.
كيف سيبدو العمل كالمعتاد في مكتب ما بعد الجائحة؟ هل سيستمر بعضنا في استخدام أمكنتنا الخاصة كأمكنة عمل؟ هل نحن في حاجة إلى أن نكون في المكان نفسه الذي يوجد فيه زملاؤنا للاستفادة من ”الاحتكاكات الإبداعية“ Creative frictions التي من المعروف أن المشاركة الفعلية تشجعها؟ أو هل يمكننا الحصول على مزيج منسق من العمل من بُعد والعمل الشخصي، كما تشير شعبية الترتيبات الهجينة؟
إعطاء الأولوية للرابط البشري
في تقرير يناير 2021 ”تشكيل مستقبل العمل من أجل عالم أفضل“ Shaping the Future of Work for a Better World، توقعت شركة العقارات التجارية العالمية جاي إل إل JLL أن التحول المتسارع في مكان العمل الرقمي، إلى جانب التركيز على العامل، ”سيعالج كلاً من التوقعات المتزايدة للقوى العاملة والأهمية المتزايدة للرابط البشري“. يجب أن تكون أمكنة العمل المستقبلية أكثر مرونة وأقل مركزية وأكثر تركيزاً على الناس People-centric لجذب أفضل المواهب والاحتفاظ بها، مع ضمان أن يبقى هؤلاء العاملون محفَّزين ومبدعين عند العمل سواء من بُعد أو حضورياً.
وفي الواقع، في المحادثات حول ما فاتنا أكثر حول المكاتب التي تركناها وراءنا في العام الماضي، برز موضوع معين باستمرار: لقد افتقدنا زملاءنا. نحن نُفوت فرص التفاعلات وليدة المصادفة مع الأشخاص الذين نعرفهم جيداً، وأولئك من الفرق الأخرى التي قد نعرفها بقدر أقل.
وفيما يخص الأشخاص الجدد في الشركة، تُعَد القدرة على التشبيك Network والتواصل Connect شخصياً أمراً بالغ الأهمية لبناء ما حدده مارك غرانوفتر Mark Granovetter، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ستانفورد Stanford University، في العام 1973 على أنها روابط ضعيفة Weak ties – أولئك المعارف العارضين الذين ينقلوننا خارج شبكاتنا الراسخة والمألوفة ”القوية الرابط“ Strong tie. وتوفر الروابط الضعيفة Weak ties لنا الفرصة للتعلم والتوسع، وفي الواقع معظم الناس يتعلمون ويحصلون على وظيفتهم المقبلة من خلال مثل هذه الروابط.
إعادة تشكيل الحدود
تغيرت الحدود المادية بين العمل والحياة المنزلية بنحو جذري بالنسبة إلى كثيرين؛ وكذلك تصوُّرنا لما هو مطلوب للإنتاجية والتعاون، وكذلك معنى ”المكتب“ نفسه. وتستلزم هذه التحولات إعادة النظر في أنواع الأنشطة الأكثر ملاءمة للتعايش، وتلك التي من الأفضل تركها لأماكن أكثر خصوصية، سواء كانت مكتباً منزلياً أو مكاناً ثالثاً. ولم يعد من المفترض إجراء إعادة ضبط بسيطة للسياسات السابقة على الجائحة والمستندة إلى مفاهيم عفا عليها الزمن عن الوقت المنفق حضورياً وعن الحضور، كما أنها لم تعد، في كثير من الحالات، مرغوباً فيها أو مستدامة.
وحان الوقت لنهج أكثر دقة ينظر إلى أماكن العمل كأنظمة إيكولوجية بدلاً من مواقع مادية منفصلة. نحن في حاجة إلى أن نسأل أنفسنا، والأهم من ذلك أن نسأل موظفينا، عن أنواع التجارب التي تستفيد من أنواع الأمكنة– وهو سؤال لم يعد من الممكن التعامل معه كأنه ”مقاس واحد يناسب الجميع“.
تطرح عملية إعادة تصور الأمكنة المكتبية أسئلةً حاسمة وشاملة: كيف سيدعم تخيُّلنا لمفهوم أمكنة العمل والاستخدام المتطور للتكنولوجيا ممارساتِ عملنا؟ ماذا تقترح التحولاتُ حالياً حول ما يعنيه أن يكون المرء إنساناً في العمل؟
على الرغم من أن مفهوم المصادفة ليس مفهوماً جديداً في التصميم في مكان العمل، فإنه سيصبح مفهوماً أكثر إلحاحاً مع تقليص النُهُج الهجينة من فرص العاملين في التفاعل شخصياً.
وفي خضم هذا السيل تبقى حقيقة واحدة: البشر كائنات اجتماعية. ومع وضع السمات الشخصية كالشخصية المنطوية Introversion أو الشخصية المنفتحة Extroversion جانباً، الناس يحتاجون إلى الناس. والتقدم في الأدوات الرقمية كوسطاء لا يكفي لتمكين الروابط. وعلى الرغم من أن مفهوم المصادفة Serendipity ليس مفهوماً جديداً في التصميم والتخطيط المعماري في مكان العمل، فإنه سيصبح مفهوماً أكثر إلحاحاً مع تقليص النُهُج الهجينة من فرص العاملين في التفاعل شخصياً. وسيحتاج القادة إلى ابتكار وتشكيل أنواع من اللحظات الاجتماعية التي تمكِّن من تواصل إنساني أكثر ثراءً ومغزى في مكاتبنا وحياتنا العملية.