أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم السياسة

مال الشركات السياسي تحت المحاسبة

بعد محاولة الانقلاب والهجوم على الكابيتول الأمريكيّ في 6 يناير، تحركت شركات كثيرة بشكل نادر: خفضت التبرعات إلى الساسة. فقد بدأ العشرات من الشركات المتعددة الجنسيات بإيقاف كل التبرعات السياسية. وأعلنت مجموعة فرعية، وهي أكثر الشركات شجاعة وأمانة، أنها لن تقدم أي أموال إلى 147 من الممثلين في الكونغرس الأمريكي وأعضاء مجلس الشيوخ الذين صوتوا على إلغاء عدد الأصوات في المجمع الانتخابي الاحتفالي عادة.

وبدءاً من بلو كروس Blue Cross، وداو Dow، وماريوت Marriott وبعض الشركات الأخرى التي تحركت أولاً، تتضمن القائمة المتنامية إير بي إن بي Airbnb، وأمازون Amazon، وأميريكان إكسبرس American Express، وإيه تي أند تي AT&T، وسيسكو Cisco، وسيتي Citi، وكومكاست Comcast، وديزني Disney، وإكسيلون Exelon، وجنرال إلكتريك General Electric (GE)، وغولدمان ساكس Goldman Sachs، وإنتل Intel، وكرافت هاينز Kraft Heinz، وماستركارد Mastercard، ومورغان ستانلي Morgan Stanley، ونايكي Nike، وأوراكل Oracle، وفايزر Pfizer، وستايت ستريت State Street، ووالمارت Walmart، ووفيريزون Verizon. أو بعبارة أخرى، هذه ليست القائمة الضئيلة المعتادة من الشركات التقدمية مثل باتاغونيا Patagonia التي تمارس الضغوط على الحكومات لحملها على تمرير قوانين بيئية أكثر عدوانية. هذا شيء جديد. وهي ليست مجرد مبالغ نقدية بسيطة، فقد منحت الشركات 170 مليون دولار على الأقل إلى هؤلاء المشرعين الـ147 على مدى السنوات الأربع الماضية.

وبالنسبة إلى الأوروبيين لا يبدو التحرك لإبعاد الأموال عن السياسة أمرا مبهراً. ففي أغلب البلدان المتقدمة، تؤدي تركيبة من حدود المساهمة Contribution limits، وحظر الدعاية التلفزيونية، والتمويل العام للحملات الانتخابية إلى عدم جدوى إلقاء الأموال على الساسة أو استحالته. ولكن الولايات المتحدة قصة مختلفة. فعام 2010 عمد قرار للمحكمة العليا في الولايات المتحدة في قضية مواطنون متحدون ضد لجنة الانتخابات الفيدرالية Citizens United v. Federal Election Commission إلى ”قلب القيود التي كانت مفروضة على تمويل الحملات الانتخابية طيلة قرن من الزمن ومكن الشركات وغيرها من المجموعات الخارجية من إنفاق أموال غير محدودة على الانتخابات“، وفق مركز برينان للعدالة Brennan Center for Justice. وفي قرار نال خمسة أصوات في مقابل أربعة، ساوى القضاة بين الإنفاق السياسي وحرية التعبير.

وأطلقت القضية سيلاً من المال من لجان العمل السياسي political action committees الكبيرة (التي تُسمَّى سوبر باكس super PACS)، والتي يمكنها أن تعرض أكبر عدد يحلو لها من الإعلانات لصالح المرشحين أو ضدهم. وكان تدفق ”الاستثمار“ في المرشحين المتنافسين على مناصب مذهلاً. ويجمع مركز العمل السياسي المستجيب Center for Responsive Politics معلومات عامة عن التبرعات السياسية وينشر تحليلات على موقعه الإلكتروني OpenSecrets.org. وحسب أن لجان العمل السياسي عام 2010 أنفقت 63 مليون دولار. وبحلول عام 2020 بلغ هذا الرقم 2.1 بليون دولار.

وكانت النتيجة مزيداً من مركزية السلطة واتساع فجوة التفاوت. فقد قدم أعلى 1% من الجهات المانحة 93% من هذه الأموال، وقدم 100 شخص فقط 70% منها. فالولايات المتحدة لديها ما يضفي الشرعية في الأساس على الفساد الذي يمنح الأثرياء والأقوياء تأثيراً كبيراً. فما يجري في بلدان أخرى في غرف خلفية أو عبر مغلفات تُمرَّر تحت الطاولة يجري على المكشوف في الولايات المتحدة.

ولكن من الواضح أن التمرد المسلح جعل العديد من الشركات الكبرى في نهاية المطاف غير مرتاحة لدعم الساسة لمجرد أنهم في السلطة. فقد كانت عاصفة من المؤسسات التي غيرت مسارها. وأمضت أغلبية الشركات الكبرى عقوداً وهي تقول: ”أوه، لسنا مُسيَّسين“، في حين كانت تصب المال في خزائن السياسيين لفرض نفوذ على كل شيء من السياسات التجارية إلى الاستراتيجيات التنظيمية.

وقد تميل بعض القطاعات إلى صالح حزب واحد أكثر من غيره، فتمنح شركات القانون والاستشارات مالاً أكثر إلى الديمقراطيين، وتمنح شركات النفط والغاز وصناعة السيارات والزراعة الضخمة مالاً أكثر إلى الجمهوريين. كذلك تميل القطاعات إلى جانب واحد فيما يتصل بمسائل محددة. مثلاً، في حالة تغير المناخ Climate change، فإن المصالح الخاصة فقط (شركات الوقود الأحفوري) هي التي تنفق الأموال المستهدفة والوقت المستهدف وهي تمارس الضغوط في أروقة السلطة. ومع هذا قدمت أغلب الشركات الكبرى أموالاً منذ زمن، وبكل سعادة، إلى الأطراف الفاعلة في السلطة في كل من الحزبين.

ومن الواضح أن شيئاً ما اختلف الآن. ففكرة أن الشركات مسؤولة أمام العالم من حولها عن آثارها التشغيلية المباشرة (أو غير المباشرة) فقط قد بدأت بالاضمحلال السريع. وكان عام 2020 نقطة تحول إلى حد كبير. فمقتل جورج فلويد والطاقة الجديدة وراء حركة ”حياة السود مهمة“ Black Lives Matter كانت من الأسباب التي دفعت القادة المؤسسيين جميعاً إلى النظر في المرآة. فقد شعر الكثير منهم بالحاجة إلى الحديث عن الكيفية التي قد يعالجون بها التفاوت العرقي. وكانت البيانات والالتزامات العامة تركز في الأغلب على التغيرات التشغيلية في التوظيف، أو تشجيع تنويع المسؤولين التنفيذيين، أو إنفاق المال مع موردين أكثر تنوعاً.

والآن، ومع أحداث أوائل عام 2021، أعلنت العديد من الشركات تعهدات تخص إنفاقها السياسي، فانفتحت أمام مزيد من الاهتمام والتمحيص حول مَنْ وماذا تدعم. ومن الواضح أنها تأخذ هذا الأمر على محمل الجد. فقد ذكرت النيويورك تايمز The New York Times أن رئيس الشؤون الحكومية في بنك سيتي كتب في مذكرة داخلية يقول إن العملاق المالي ”لن يدعم المرشحين الذين لا يحترمون سيادة القانون“.

إذا أخذت الشركات بالحسبان الالتزام الأساسي الذي يبديه أحد الساسة بالديمقراطية، ماذا عن إعادة التفكير في سجلات التصويت فيما يتصل بتغير المناخ، أو التفاوت الاقتصادي، أو الهجرة؟

وعلى هذا، إذا ما أخذت الشركات بالحسبان الالتزام الأساسي الذي أبداه أحد الساسة بالالتزام بالصدق والديمقراطية، سيكون بوسعنا منطقياً أن نسأل ما هي الأمور الأخرى التي ستعيد الشركات النظر فيها. ماذا عن سجلات التصويت فيما يتصل بمسائل أخرى حرجة، مثل تغير المناخ، أو التفاوت الاقتصادي، أو الهجرة؟ هذه ليست أسئلة ثانوية. إن حل أكبر التحديات التي تواجهنا يتطلب من القطاع الخاص والحكومة العمل معاً. وتحتاج الأعمال إلى الساسة المناسبين الذين يدعمون السياسات السليمة.

مثلاً، التزمت العديد من الشركات بخفض الانبعاثات الكربونية بشكل كبير وبالاستثمار في الطاقة المتجددة. وبوسع السوق أن تتعامل مع بعض من هذا، لكن الاستثمار الحكومي في البنية التحتية ضروري بالقدر نفسه لبناء شبكة ونظام نقل نظيفين بتريليون دولار. ويتعين على الحكومة أيضاً أن تتولى زمام المبادرة من خلال التحرك بسرعة أكبر لتحديد سعر للانبعاثات الكربونية. ولكن في الولايات المتحدة، لم يصوت معظم الجمهوريين تقريباً على المستوى الفيدرالي لصالح سياسات مناصرة للمناخ قط. فكيف تستطيع الشركات ذات الأهداف والمنتجات المناخية الضخمة التي تخدم الاقتصاد النظيف أن تستمر بدعم الأطراف الفاعلة التي تصوت باستمرار ضد مصالحها؟

أو لنتأمل هنا الأجور. من الصعب على الشركات التي تعتمد على العاملين من ذوي الأجور المتدنية أن ترفع من جانب واحد رواتب الموظفين؛ وقد تضع نفسها في موقف غير مواتٍ إذا لم يحذُ أقرانها حذوها. فضلاً عن ذلك تعتمد الشركات التي تحتاج إلى طبقة متوسطة عالمية مزدهرة من أجل الحفاظ على نمو أعمالها، والتي تكاد تكون كل شركات التجزئة والمنتجات الاستهلاكية على أقل تقدير، على حصول معظم الناس على رواتب تكفي لشراء البضائع الأساسية وأكثر من ذلك. والحكومة هي وحدها القادرة على تنظيم الحد الأدنى للأجور.

والنقطة المهمة هنا هي أن الشركات الكبرى كانت عميقة التأثير في نفوذها السياسي لعقود من الزمن. والتظاهر بغير ذلك غير مقبول. والآن حان وقت المناصرة التي لا تخدم المصالح الضيقة فحسب – مثل الحد من تنظيم معين لقطاع شركتكم فقط – بل تهدف أيضاً إلى تحقيق مصلحة اجتماعية أوسع نطاقاً. فالعمل مع الحكومة من أجل التحرك نحو تحقيق أهداف مشتركة من الممكن أن يحدث، بل لا بد من أن يحدث. ولكن هذا يتطلب وجود الشركاء المناسبين في مواقع السلطة.

والواقع أن الشركات الشجاعة التي خفضت التمويل المدفوع إلى الساسة الذين حاولوا إسقاط نتائج انتخابات رئاسية حرة ونزيهة حققت قفزة كبيرة. وباعتبارنا مستهلكين وموظفين وأعضاء مجتمع ومستثمرين، يمكننا دعم هذه المؤسسات. كذلك ينبغي علينا تشجيع الشركات على المضي إلى ما هو أبعد من ذلك وطرح سؤال بسيط: هل السياسيون الذين تؤيدونهم يعرقلون التقدم إزاء أكبر التحديات التي تواجهنا، أم أنهم يساعدوننا على بناء عالم أفضل؟

أندرو ونستون Andrew Winston (@hotstunon)

أندرو ونستون Andrew Winston (@hotstunon)

مؤلف ومتحدث ومستشار معروف عالمياً، يتحدث عن كيفية بناء شركات مرنة ومربحة تساعد الناس وكوكب الأرض على الازدهار. للتعليق على هذا الموضوع: https://sloanreview.mit.edu/x/62323.
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى