أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
منوع

موظفوكم بحاجة إلى رعاية، لا صيحة حرب

جيانبييرو بتريغلييري

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -بقلق- في واحدة من أولى رسائله المسائية حول ”كوفيد-19“ لمواطني البلد الذي أعيشُ فيه، نحن ”في حالة حرب“. وكرر ذلك خمس مرات. وكنا عائلتي وأنا بدأنا للتو بالتكيف مع حجرنا المنزلي. ولم أكن قد رصدت تماماً صور المعركة قبل ذلك، لكنها كانت بالتأكيد موجودة، في التقارير الواردة من ”خط المواجهة“ الإيطالي والمناطق التي سرعان ما صارت ”معرضة للهجوم“. وبعد أسبوعين، وفي الوقت الذي قال فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن مشاهدة الأطباء والممرضين المتوجهين إلى العمل كانت أشبه برؤية “عسكريين يخوضون المعركة”، شعرتُ بأنني محاصر بالاستعارة المجازية. كانت الاستعارة في كل مكان، في العمل السياسي وفي قطاع الأعمال، وهي ربما تضرنا أكثر مما تفيدنا.

أفهمُ لماذا يواصل الأشخاص استخدامها. فأجسادنا المادية في خطر وأجسادنا الاجتماعية تحت الضغط. وحرياتنا مقيدة واقتصاداتنا مدمرة. وهناك عدد متزايد من القتلى. والكثير منا يتمترس في أماكنهم، بينما أولئك الذين لا يستطيعون البقاء في المنزل يخدموننا ويحموننا بتضحية كبرى بالنفس.

وأنا معتاد أيضاً على الاستعارات الخاصة بالحروب. فمع كل الحديث في مجالي، مجال المنح الإدارية، عن الرسائل والأهداف الاستراتيجية، لطالما صُوِّر القادة في تمويه عسكري. ويعتمد المسؤولون التنفيذيون أنفسهم الآن في شكل أكبر من أي وقت مضى على الحديث الحربي. ذلك أن كل يوم، بالنسبة إلى العديد من الشركات، هو معركة من أجل البقاء. ومع ذلك، فإن اللغة التي تثير العمل العدواني والمقاومة الصامتة لغة إشكالية.

وهذا هو السبب: تجردنا الحرب من إنسانيتنا، وترغمنا على وضع نقاط الضعف جانباً والانخراط في العمل الزائد. وأسمعُ هذا كله في كلمات المديرين والعاملين الذين أتحدثُ إليهم كل يوم، وهم يتحولون إلى عسكر، إذا جاز التعبير، في حين أن كل شيء قد تغير من حولهم. هم يؤدون واجباتهم بشجاعة. وهم قلقون بصمت ومغمورون بالمهام الموكلة إليهم، في حين أن رؤساءهم يدفعونهم إلى الحفاظ على تركيزهم ويحيلون إليهم قوائم تتناول العمل الافتراضي الفاعل. ووجدتُ نفسي مجنداً إلى جانبهم، فانضممتُ إلى المعركة مع حاسوبي المحمول وقائمة مهامي، حتى أدركتُ أنني كنت أقاتلُ من أجل طاغية: صوت داخلي لا يرحم يقول لي إنني يجب أن أبقى منتجاً أو يضيع كل شيء.

وفي هذه الأوقات العصيبة التي تنتشر فيها الخسائر في كل مكان، يجب على القادة أن يفعلوا أكثر من الترويج للوهم القائل إن خوض معركة مع النصائح والتكنولوجيات، وهي ذخيرة مكان العمل الافتراضي، سيعيدنا في نهاية المطاف إلى وضعنا الطبيعي. فهذه الرسالة ليست مرهقة فحسب. إنها غير مشجعة أيضاً.

لا يمكننا بالقتال أن نشق طريقنا إلى الوضع الطبيعي الآن. فقد علمني ذلك الأشخاص الذين تغيرت حياتهم إلى الأبد بسبب فقدان شخص عزيز، أو خسارة الذات القديمة جراء المرض أو الصدمة.

قال لي أحد الزملاء ذات مرة، واصفاً تجربته مع السرطان، ”إنها ليست معركة. لم أكن محارباً. كنت مريضاً“. وعلى غرار آخرين تحدثت إليهم من أجل كتابة موضوع حول مساعدة العاملين على التعامل مع الخسارة والموت، قال لي إن ما احتاج إليه أكثر لم يكن دعوة مثيرة إلى خوض معركة. كان بحاجة إلى رعاية دؤوبة. كان بحاجة إلى أن يُرَى ألمه وخوفه ويُكبَحا، لا أن يُدفَعا جانباً.

وتظهر الأبحاث أن الأشخاص الذين يقتربون من الموت يكونون في الأغلب أكثر تركيزاً، ويكونون أقل قلقاً، وتراودهم شكوك أقل حول ما هو مهم بعد ذلك. وعندما تسألون أولئك الذين تحملوا خسائر كبيرة عمّا ساعدهم على بناء حياة جديدة، يرد العديد منهم بمثل ما قاله لي زميلي. أما الدعوات إلى القتال؛ فتأتي بنتائج عكسية. فهي تثير القلق، مما يجعل -بدوره- أي تحول نحو الأسوأ يبدو كأنه فشل شخصي أو هزيمة شخصية. فالرعاية هي ما يعيدكم إلى الحياة.

وفي هذه الأيام، وفي أنحاء العالم كلها، نحتفل بالعاملين في المجال الصحي، الأطباء والممرضات والمسعفين، كأبطال. ولكن ينبغي لنا أيضاً أن نتعلم من مثالهم. نعم، إنهم عند خط المواجهة. إنهم يحدقون بالموت ويضحون من أجل الغرباء. ولكنهم لا يقاتلون حقاً. إنهم هم يوفرون الرعاية. ومن أجل رعاية الآخرين يجب أن يكونوا مرئيين ويحظوا برعاية أيضاً.

 في كثير من الأحيان يختزل البشر قلقهم وخوفهم واحتياجاتهم في المسار الضيق من العدوانية. وهذا أمر معتاد في الأعمال، ومن هنا كان ولعنا بلغة الحرب. ولكن هذه الأزمة ليست على غرار العمل كالمعتاد، والقادة بحاجة إلى طرق أفضل للحضور ورعاية الأشخاص الذين يعانون خسارة.

زيادة الاهتمام بالرعاية فوق الاهتمام بالهيمنة يتطلب منا تحدي الانقسام التقليدي بين الكون قائدا أو مديرا.

ويتطلب منا إحلال الطبيب محل الجنرال العسكري في صورنا وممارستنا للقيادة، وزيادة الاهتمام بالرعاية فوق الاهتمام بالهيمنة، أن نتحدى انقساماً تقليديا: أي الفكرة القائلة إن القادة يحددون الرسائل والأهداف، بينما يوفر المديرون الاستقرار والرعاية. ولهذا الانقسام شعبية ونطاق واسع. (وله علاقة بالجنس الاجتماعي أيضاً). وهو يقودنا إلى المبالغة في تقدير أولئك الذين يتصرفون بوصفهم القادة حتى عندما نحتاج، كما هي الحال في الأزمات، إلى امتلاك الأشخاص الذين يتولون المسؤولية مهارات المديرين بدلاً من ذلك.

وفي أكثر السيناريوهات تفاؤلاً سنعاود النظر في جائحة كوفيد-19 باعتبارها وقتاً اعتبرنا فيه الرعاية الكفؤة عملاً من أعمال القادة واحتفينا بها بقدر ما احتفلنا بالدعوة إلى الحرب. وقد يجعل ذلك رؤساء الدول والرؤساء التنفيذيين للشركات يعيدون النظر في إثارة الحرب لإثبات أنهم لا يزالون يتولون المسؤولية.

أما بالنسبة إلي، بعدما بدأت بالعمل من المنزل، قرأت ورقة من أبحاث أجراها الأستاذ في مدرسة وارتون Wharton School آدم غرانت Adam Grant. في تلك الدراسة، صار الأشخاص الذين أُبعدوا في البداية عن أولئك الذين استفادوا من عملهم أكثر حماسة وإصراراً بعد تفاعلهم مع أولئك المستفيدين. بل إنهم كسبوا مزيداً من المال بمجرد أن توقفوا عن القتال من أجل الإيرادات وبدؤوا في رعاية الأشخاص.

لقد جمعتُ بين مبدأ إعطاء الأولوية للرعاية وبين الممارسة تعلمتها من تدريبي الطبي، ألا وهي مبدأ كثيراً ما يتردد في الأخبار هذه الأيام: الإلحاح. فقد وضعتُ قائمتي بالمهام الواجب تنفيذها جانباً ووضعت قائمة جديدة، قائمة الأشخاص “الواجبة رعايتهم”. وليس في القائمة أسباب أو مهام، بل فقط أشخاص. ورتبتهم وفق من يحتاج إلى رعايتي أولاً ومن سيستفيد من ذلك أكثر من غيره. وأي شيء في قائمة المهام القديمة لا يؤثر في هؤلاء الأشخاص أُلغِي في الوقت الحاضر. وكنتُ أكثر إنتاجية، ومفيداً، ومطمئناً منذ ذلك الحين.

لا يمكننا أن نهزم الخسارة. يجب أن نعمل عبرها وأن نساعد الآخرين على أن يفعلوا الشيء نفسه. وقبل أن تعدوا الملصق القائل “حافظوا على الهدوء وواصلوا العمل” الرائج في زمن الحرب كخلفية في تطبيق زوم Zoom، اسألوا أنفسكم: هل هذه هي الرسالة التي تحتاجون إليها أنتم وزملاؤكم وعائلتكم الآن؟ أشك في ذلك.

جيانبييرو بتريغلييري (@gpetriglieri)

جيانبييرو بتريغلييري (@gpetriglieri)

أستاذ مشارك بالسلوك المؤسسي في إنسياد INSEAD. تدرب كطبيب صحة وطبيب نفسي، ويجري أبحاثاً في تطوير القيادة ويمارس هذا الاختصاص. للتعليق على هذا الموضوع: http://sloanreview.mit.edu/x/61421.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى