أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
إدارةاتخاذ القرارشركاتقيادة

كيف تنشئ الاستقلاليةُ المرونةَ في وجه الأزمات

تعافت شركة تصنيع صينية عملاقة بسرعة من أزمة الفيروس التاجي (الكورونا). وإليك ما تستطيع تعلمه من هيكلها التنظيمي.

هوارد يو، مارك جاي. غريفن

كشف تفشي كوفيد-19 هشاشةَ Fragility سلسلة التوريد العالمية Global supply chain، وما يتلو ذلك من هشاشة الهياكل التنظيمية Organizational structures لكثير من الشركات. ففي سعي الكثير من المؤسسات إلى تحقيق مزيد من الكفاءة، وخفض التكاليف، وتقليل التكرار غير الضروري Redundancies، صارت تعتمد على أنظمة مرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا ومعتمدة على بعضها البعض. وفي هذا النوع من الأنظمة، يكون هناك فقط القليل من التراخي Slack والقليل من المناطق القادرة على امتصاص الصدمات Buffers بين أجزائها، وعلى غرار ما رأينا إلى اليوم، لا يتوفر إلاّ هامش ضيق للمناورة حين يقع خلل خطير ما. وتمتد عوامل الترابط هذه لمسافات جغرافية شاسعة، وقد تكون عرضة -على الخصوص- للخطر عند حدوث أي تأخير في جزء آخر من السلسلة.

في صناعة السيارات، مثلاً، يعتمد معظم المصنعين — من تويوتا Toyota في اليابان إلى جنرال موتورز General Motors في الولايات المتحدة — على قطع الغيار من الصين، وتأكيد الصناعة ككل على التسليم في الوقت المطلوب Just-in-time delivery يعني أن المصنعين لا يحتفظون بمخزون احتياطي كبير. وفي الظروف الطبيعية، يكون هذا النظام فعالا وعالي الانتاجية، لكن لا أحد يستطيع صنع سيارة بـ99% فقط من قطعها. وبالفعل، حين أغلقت هيونداي Hyundai للمرة الأولى مصانع التجميع في كوريا الجنوبية في فبراير، لم يكن السبب الوحيد الانتشار الكبير لكوفيد-19 في البلاد، بل لأن الشركة لم تستطع إبقاء مصانعها مفتوحة من دون قطع غيار صينية. وفي نظام غير مرن Inflexible system ممتلئ بشركات تُدَار من الأعلى إلى الأسفل Top down والتي هي أبطأ من اللازم لتتأقلم، تصبح هذه القنوات الفعالة جداً خلال فترات الاستقرار مصدراً لتعطيل شديد.

وعدم المرونة التنظيمية Organizational rigidness فاقمت مشكلات سلسلة توريد اللوازم في عدد من القطاعات في وقت مبكر من هذا العام، وفي مجموعة واسعة من الشركات، بما في ذلك أبل Apple وتويوتا وهاسبرو Hasbro. لكن هذا الأثر لم يكن عالميا.

في نهاية فبراير عندما كان معظم المصنعين في الصين يبدأون للتو في إعادة الإنتاج، كانت مصانع مجموعة هاير Haier Group — وهي واحدة من أكبر شركات تصنيع الأدوات المنزلية في العالم — تعمل بالفعل بقدرتها الإنتاجية الكاملة من جديد، لأسباب أهمها تصميم الهيكل التنظيمي Organizational design المميز للشركة. فلسنوات، نظمت هاير -ومقرها في مدينة تشينغداو- نفسها لا كهرمٍ تنازلي بل كمجموعة من وحدات الأعمال Business units تدير نفسها بنفسها, وتستطيع إجراء تعديلاتها السريعة الخاصة بها من أجل استمرار العمل في زمن الأزمات.

وإعادة ضبط الهيكل التنظيمي التي هيّأت هاير لصدمة كورونا كانت قيد الإعداد منذ سنوات كثيرة. ولطالما اهتم جانغ رويمين Zhang Ruimin -الرئيس التنفيذي لهاير- بكسر البيروقراطية، ويُشتهَر بقوله: “إن الشركات الناجحة تتأقلم مع الأزمنة”. وفي عام 2012 تقريباً، أنذر المديرين في المراتب المتوسطة من الإدارة: اختاروا الطرد أو التحول إلى رواد أعمال مستقلين independent entrepreneurs. (انظر:“Leading to Become Obsolete”, MIT Sloan Management Review, June 19, 2017, www.sloanreview.mit.edu). وقال إن هذا القرار كان أصعب قرار اتخذه على الإطلاق، لكن الهدف كان تحويل الشركة من بضعة مجالات أعمال جامدة إلى نحو أربعة آلاف أعمال صغيرة جدا microenterprises أو ما يعرف بالأعمال MEs، يتألف كل منها من 10 إلى 15 موظفاً فقط. وتشير التقديرات المبكرة إلى أن هاير قلصت قوتها العامة بنحو 45%، مقارنة بالحجم الأقصى الذي بلغته في السابق، لكنها أنشأت أكثر من 1.6 مليون وظيفة جديدة.

وشهد الموظفون الذين استمروا في العمل بعد ذلك استقلاليةً إضافية. وأعطى جانغ قادة كل مشروع ME مجموعة من صلاحيات اتخاذ القرارات —في توظيف الموظفين أو التحكم في التوزيع— تُعطَى عادة للرئيس التنفيذي CEO للشركة، لا لرئيس قسم. وبدلاً من التنسيق المركزي، تعاملت هذه المشروعات MEs باستقلال مع بعضها بعضاً، وأُعطِيت استقلالية كاملة لتسليم المنتجات النهائية للمستهلكين Consumers. وصنَّعت مشروعات MEs أخرى قطع غيار معينة، في حين قدمت مشروعات أخرى خدمات مثل إدارة الموارد البشرية أو التصميم. وقدمت هاير أيضاً منصات Platforms داخلية كثيرة لتسهيل التعاملات بين المشروعات MEs، ففي فكرة تشبه متجر التطبيقات App store. ومكنت التنسيق Coordination لكنها لم توجِّهه.

وخلال تفشي الكورونا، حافظت Buoyed المشروعاتُ MEs على استمرار الأعمالَ. وبفضل حرية تعديل سلاسل التوريد الخاصة بها وفقا للمعرفة المتخصصة والمعلومات المُحدَّثة باستمرار، غيّرت المشروعات MEs ارتباطاتها شيئا فشيئا. ولأن كل مشروع MEs تمكن من العمل بسرعة للحد من الاضطراب، تمكنت الشركة ككل من التعافي بأسرع من منافساتها. ومع تصنيع 60% من المنتجات في مصانع خارج الصين، ومع انتشار موارد الموردين في الأميركتين وجنوب شرق آسيا وجنوب آسيا وأوروبا، استطاعت هاير تلبية 99.8% من الطلبات خلال فبراير 2020، وهي فترة كانت الصين تعاني فيها من المرض أكثر من أي فترة أخرى.

وعلى الرغم من أن تحولاً تنظيمياً شاملا Full-scale organizational transformation على غرار الذي أجرته هاير ليس ممكناً ببساطة بين ليلة وضحاها، إلا أن هناك بضعة خطوات يمكن للشركات أن تخطوها لتحصين مخططات هياكلها التنظيمية —وصافي دخلها— من الأزمات في الأجل القريب.

1. دمقرطة عملية اتخاذ القرارات عند المستوى العابر للوظائف Democratize the decision-making process at the cross-functional level. في مواجهة أزمة مثل جائحة كوفيد-19، وعلى الرغم من أن الشركات قد لا تتمكن من زيادة استقلالية إدارات أو مواقع إنتاجية محددة، يمكن السماح مؤقتاً لفرق عابرة للوظائف Cross-functional teams بامتلاك سلطات أكبر في مجال اتخاذ القرارات. ويمكن اعتبار هذه الفرق “فرقاً قوات خاصة مُحلِّقة” Flying SWAT teams، مع متطلبات محدودة من حيث مراجعة مواقع أعلى في الهرمية قبل اتخاذ القرارات. وهذا نهج هو في الواقع أقل جذرية من الاعتقاد الشائع. فهو في الغالب النهج المعياري المستخدم في الابتكار.

انظر إلى رويال فرايزلاند كامبينا Royal FrieslandCampina، وهي واحدة من أكبر الشركات المنتجة للألبان في العالم، وتتجاوز عوائدها السنوية 11 بليون يورو. فلسنوات عديدة أدارت برنامج ميلكيوبيتر Milkubator – وهو برنامج تسريع Acceleration program يقترح فيه الموظفون أفكاراً للإدارة العليا، التي بدورها تدعم الأفكار المُختارة بتمويل وتدريب من قبل مدربين داخليين وخارجيين. وتعمل فرق ميلكيوبيتر بحرية كاملة، وتتشكَّل مشروعاتها عادة من قبل موظفيها أنفسهم.

إن زيادة مساحة الاستقلالية -حتى لو على أساس مؤقت- تُثير الخوف، لكن أحد المبادئ الإشادية Guiding principle يجب أن ينص على أن موظفيكم الميدانيين هم بمثابة أصول Asset عند الحاجة إلى اتخاذ القرارات الصعبة — وبعبارة أخرى، ثقوا بقدرات فرقكم ومهاراتهم.

2. احتضان قيادة التركيز على خط واحد Embrace single-threaded leadership. قيادة التركيز على خط واحد معروفة جيداً بنجاحها في شركات تكنولوجية عملاقة مثل أمازون Amazon، وهي تشير إلى إعطاء القائد مشكلة واحدة ليحلها مع ميزانية محددة وجدول زمني محدد. ولإتّباع مثال القيادة في عالم رأس المال الاستثماري Venture capital، يتطلب هذا النوع من القيادة من الشركات أن تُحدّد فكرة ناشئة Startup idea واعدة من الأفكار الكثيرة المعاوضة عليها، وتُنيط مسؤليتها بقائد واحد يعمل على بلورتها ضمن إطار المؤسسة. وفي هذا الدور المحدد بوضوح، يتمكن القادة من رفع التركيز إلى حده الأقصى وخفض الإلهاءات إلى حدها الأدنى حيثما أمكن —في الوقت الحاضر على الأقل.

ومن أمثلة ذلك الشركة بي واي دي BYD، الشركة الصينية المصنعة للمركبات الكهربائية والهواتف المحمولة ومنتجات أخرى. فللمساهمة في جهود السلامة خلال الجائحة، قرر المؤسس رئيس مجلس الإدارة وانغ شوانفو Wang Chuanfu خلال العام الصيني الجديد أن تصنع بي واي دي كمامات ومطهراً. وأعلن وانغ عن نيته عبر منصة التواصل الاجتماعي وي تشات WeChat، وأشار إلى أن أي مسؤولٍ تنفيذي Executives يتقدم بمقترح قابل للتطبيق خلال أسبوع، بغض النظر عن الإدارة التي يعمل فيها، سيتلقى مكافأة استثنائية. وبحلول 31 مارس، أعلنت الشركة BYD أنها أنشأت أكبر مصنع في العالم لإنتاج الكمامات بكميات كبيرة Mass-production. وذُكِر إنه عمل بقدرته الإنتاجية الكاملة التي تمكنه من إنتاج خمسة ملايين كمامة و300 ألف قارورة مطهر يومياً. ونجحت الشركة BYD في تحديد مهمة واضحة، وجدول زمني دقيق، وأولويات لا يشوبها ارتباك.

3. التواصل الواضح والشفاف Communicate clearly and transparently. يحتاج القادة إلى استخدام تتابع أعمال رقمي Digital workflows وتسجيل من يتخذ أي قرار من القرارات وأسباب اتخاذ ذلك القرار. وعندما يكون ممكناً، يجب تسجيل الاجتماعات بالفيديو وتوفيرها لمعظم العاملين في المؤسسة من خلال منصة بسيطة للتواصل الداخلي. هذا النموذج يوفر شفافية حول المعلومات الأساسية التي يحتاج إليها الموظفون مما يعزز الثقة، كما يسبغ وضوحاً فيما يختص باتخاذ القرارات (والمهام Responsibilities والأطراف المسؤولة Accountability) عند المستويات العليا مع خفض كلفة التواصل.

4. إعطاء الأولوية لمجموعة صغيرة من أدوات التعاون الرقمي Prioritize a small set of digital collaboration tools. في الغالب، تعيق الأنظمةُ والأوضاع المتأصلة التواصل Communication، مثل انتظار قرار خلال “اجتماع الأسبوع المقبل”. وللمساعدة على إدارة الأزمات، يجب أن تختار الشركات مجموعة واحدة من أدوات التعاون الرقمي والرهان عليها. فهناك أدوات كثيرة يمكن تركيبها واستخدامها للاجتماعات الافتراضية، والتواصل الفوري، والتعاون في العمل على المشروعات. وسواء كان التطبيق زوم Zoom أو سكايب Skype أو سلاك Slack، أو المنصة الهندية فلوك Flock، أو التطبيق الصيني دينغ توك DingTalk، المنصة المنتقاة يجب أن تلبي معياراً واحداً: سهولة الاستخدام. فتطبيقه ينبغي ألا يستهلك أكثر من 48 ساعة.

حين تحدث وارن بافيت Warren Buffett مرة عن الأزمات وكيف يمكنها أن تكشف الشركات الضعيفة، قال: “فقط حين ينحسر المد يتبين لكم من لم يكن يرتدي ثوب سباحة”. لقد كشفت جائحة كوفيد-19 خطأ سعينا إلى الكفاءة دون غيرها. لكن الجائحة أيضاً قدمت للمؤسسات الفرصة والزخم للجم البيروقراطية المؤسسية.

هوارد يو

هوارد يو

مؤلف قفزة: كيف نزدهر في عالم يمكن فيه نسخ كل شيء Leap: How to Thrive in a World Where Everything Can Be Copied (PublicAffairs,2018)، وأستاذ كرسي ليغو Lego للإدارة والابتكار في كلية آي إم دي للأعمال IMD Business School بسويسرا، ومدير برنامج الإدارة المتقدمة في الكلية. مارك جاي. غريفن أستاذ هولندي ناطق بالصينية يدرّس الابتكار والاستراتيجية في كلية آي إم دي للأعمال بسويسرا، ومؤلف رواد وأبطال مخفيون ومغيّرون ومبتدئون Pioneers, Hidden Champions, Changemakers, and Underdogs (MIT Press, 2019). للتعليق على هذا الموضوع: http://sloanreview.mit.edu/x/61415.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى