أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أعمالابتكارعلم الإنسانموارد بشرية

عصر جديد للثقافة والتغيير والقيادة

مع التغير المستمر للعالم، تحتاج المؤسسات والموظفون فيها إلى علاقات وثيقة من أجل الازدهار.

حوار بين إدغار. إتش شاين وبيتر إيه. شاين

عندما انضم عالم النفس الاجتماعي إدغار شاين Edgar Schein إلى كلية سلون للإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في خمسينات القرن العشرين، كانت الكلية قد أطلقت للتو تجربتها العظيمة في تدريس الإدارة بالاعتماد على تخصصات رسمية مثل الرياضيات وعلم النفس الاجتماعي والاقتصاد والتاريخ. وكان ذلك خروجاً جذريّاً عن شرح «ممارسة الإدارة» من خلال الحالات التي يدرسها الأساتذة الذين كانوا مديرين لمعظم حياتهم المهنية. وأثار النهج الجديد تعاونات وثيقة وغير متوقعة وتفكيراً عميقاً ومبدعاً في القيادة والثقافات الجماعية والتغيير التنظيمي – أي مجالات الدراسة الحديثة كلها في ذلك الوقت. وفي تلك البيئة، باشر إد وزملاؤه ما أسماه «ربع قرن مثير من بناء النماذج»، مما ساعد على تحديد الكيفية التي نظر بها الأفراد إلى المؤسسات وتفاعلوا معها.

بعد عقود وفي عصر رقمي، يقول إد إن الوقت حان لنموذج جديد، مستند إلى علاقات مهنية وثيقة، وانفتاح، وثقة. وقد عمل هو وبيتر شاين، ابنه وأحد المتعاونين معه، على هذا النموذج على مدى السنوات القليلة الماضية. وبعد حصوله على درجة في الأنثروبولوجيا وماجستير في إدارة الأعمال، أمضى بيتر معظم حياته المهنية كمسؤول تنفيذي استراتيجي في عدد من شركات سيليكون فالي. وفي عام 2015 قرر الانضمام إلى إد في تحليل التغييرات الجارية على قدم وساق ووصفها، لأن مهام الإدارة صارت أكثر تعقيداً وترابطاً وتقلباً. وفي هذا الحوار يطرحان وجهات نظرهما حول الحياة التنظيمية، وتاريخ موجز للأفكار التي أدت إلى هذه اللحظة، وأفكارهما حول المستقبل.

إد شاين: بيتر، في عملنا الأخير معاً، دعَوتَ إلى دمج الثقافة والتغيير والقيادة في عملية مدمجة، بدلاً من اعتبارها ثلاثة مواضيع منفصلة ذات أهمية. لماذا هذا النهج؟

بيتر شاين: معظم العاملين منا هذه الأيام، في المؤسسات الكبيرة والصغيرة، يتقبلون ضمنيّاً أن الثقافة مهمة. وسواء شملت استراتيجية أم لا، تُعَد الثقافة ركيزة عميقة: قسرية أو تمكينية أو جيدة أو سامة. ولا تتغير عندما تكون نتائج الشركة ربع السنوية سيئة أو عندما نعلن أن «لدينا مشكلة ثقافة». وتختلف الاهتمامات الثقافية للمؤسسات بالتأكيد من بيئة إلى أخرى: فالشركات الناشئة قد تقلق بخصوص بناء الثقافة الصحيحة؛ وقد تقلق المؤسسات في منتصف العمر بخصوص كيفية دمج مختلف الثقافات الفرعية الوظيفية والاجتماعية وغيرها من الثقافات التي تتعارض في الأغلب مع بعضها بعضاً أو تختلف من حيث جهة الأهداف؛ وقد تركز المؤسسات الأقدم على كيفية إنشاء ثقافة الابتكار، مثلاً، أو ثقافة إشراك الموظف في حين يتراجع الاستقرار إلى الركود واللامبالاة. ولكن الثقافة هي القوة العظيمة لتحقيق الاستقرار مع نضوج المؤسسات ولا يمكن معالجتها بإصلاحات سريعة، مثل مراجعة لبيان رسالة الشركة. وتستمر الثقافة خلال مراحل النمو. وتستغرق مبادرات التغيير التي تغير «مجازاً» لون الجدران وقتاً طويلاً لتغيير المعتقدات الراسخة التي أقامت تلك الجدران في المقام الأول.

ولكن المؤسسات يجب أن تعمل في عالم دائم التغير من حولها. وتتطور إجراءات العمل استجابةً لظروف الاقتصاد الجزئي والكلي المتغيرة بسرعة. ويحدث كثير من جمع البيانات وصنع القرار لدينا الآن بسرعة شبكية، وبصفة عامة بسرعة الضوء، في حين أنهما كانا يحدثان بسرعة الصوت والمحادثة والتأمل.

وفي هذا السياق، إذا فكرنا في التغيير باعتباره تقدماً خطيّاً Linear progression أو دالة الخطوة Step function – إذا اعتقدنا أن لدينا وقتاً لإيقاف التغيير مؤقتاً مع تطور الأحداث – فقد نتخلف عن الركب. وعلى الرغم من أن نماذج التغيير الخطية التنازلية لا تزال قابلة للتطبيق في التدفقات الإنتاجية البسيطة، فإنها في الأغلب تعمل على تعديل الإجراءات الحالية أو إلحاقها أو ضبطها، وليس من الواضح إلى متى يمكن للبشر أن يراهنوا على إضافة هذا النوع من القيمة قبل أن ينتهي الأمر بالذكاء الاصطناعي لأنه يقوم بعمل أفضل بكثير.

وقد يكون من الأفضل لنا أن نعتبر التغيير شكلاً موجيّاً Waveform من دون حالات انتظار Wait states، أي مجرد انحرافات وتدفقات متغيرة يمكننا أن نبذل قصارى جهدنا لإدارتها. وأتمنى أن يتفوق البشر على الذكاء الاصطناعي عندما يتعلّق الأمر بالتكيف المستمر مع السياقات المتغيرة، في أربعة أبعاد، في حين تتفوق الأتمتة في الضبط الدقيق، في ثلاثة أبعاد.

ولدي فضول وتفاؤل حول النماذج الجديدة للعمل والتصميم التنظيمي، التي تحول فيها التسلسل الهرمي وتوصيف الوظائف ومسارات العمل إلى إجراءات سلسة Fluid Process للتكيف الدائم مع تغير الظروف، تماماً كما يحول كائن تدفق الدم إلى الأنظمة الفرعية ذات الحاجة الأعظم. وعندما تنضج المؤسسات تكون قد طورت عدداً من الثقافات الفرعية. وسيؤثر التغير البيئي السريع في هذه الثقافات الفرعية بشكل مختلف تماماً، وستشكل عمليات التغيير بدورها القيادة الرسمية وغير الرسمية. لذلك لا يمكنك التفكير في هذه الأشياء بشكل منفصل.

إد شاين: لقد تحولت القيادة، أيضاً، إلى عملية مرنة بدلاً من شيء يتسم بألقاب الأفراد في المناصب الرسمية للسلطة أو مواهبهم أو مثابرتهم.

بيتر شاين: نعم، هذا يعكس ما نراه في المؤسسات كلها. فبالنسبة إلى البعض اليوم، وإلى عدد كبير منا قريباً، يجري العمل في مجموعات ومشاريع ذات عضوية متغيرة وأدوار جديدة تتطور باستمرار بينما تصبح المهام أكثر تعقيداً وترابطاً. ويمكننا الآن أن نعتبر القيادة إنشاءً وتنفيذاً لطريقة جديدة وأفضل للقيام بشيء ما، سواء كان ذلك استراتيجية جديدة أم منتجاً جديداً أم خدمة جديدة أم طريقة جديدة للمجموعة لإدارة اجتماعاتها واتخاذ القرارات.

وتَنتُج القيادة بهذا المعنى عن رؤية حاجة، فتبني أنواعاً من العلاقات تجعل شيئاً جديداً وأفضل ممكناً، وتحتضن فكرة مفادها أن الاندفاع والعمل يمكن أن يأتيا من أي مكان أو مجموعة عمل في مؤسسة. وتعزز العلاقات التي نراها مزدهرة، ليس فقط بين النظراء في المؤسسات الرسمية بل أيضاً في التحالفات والمنظومات الإيكولوجية: تبني الانفتاح والثقة لتحقيق الحد الأقصى لتدفق المعلومات وتحسين اتخاذ القرارات.

نحن نتحدث عن أهمية العلاقات في كل وقت. إد، لقد جادلتَ أنت مراراً في أن تحسين العلاقات ينطوي على تطوير فهم أكثر ثراء للمستويات والأنواع المختلفة وكيفية عملها. كيف نفعل ذلك؟

إد شاين: تعكس أعماق علاقات العمل بشكل أساسي فئات واسعة نشأت في المجتمعات كلها. وما نسميها علاقة المستوى ناقص 1 Level minus 1 relationship: هي، في كلمة واحدة، الهيمنة. وتكون موجودة عندما يمارس شخص متحكم ما السلطة المطلقة ويُخضِع الشخص الآخر، كما في المصانع المستغلة للعاملين أو السجون.

وليست أغلبية علاقاتنا، سواء في العمل أم المجتمع المدني، متماثلة تماماً، لكنها تميل إلى أن تكون علاقات بعيدة وعلاقات معاملات. وفي علاقات المستوى 1 هذه، نتعلم أن نؤدي أدواراً مختلفة من أجل التواصل مع الآخرين وإدارة شؤوننا اليومية. وفي العمل يُعزَّز هذا المستوى من خلال التصميم التنظيمي. ويُوظَّف الموظفون لمهاراتهم من أجل تلبية أدوار محدَّدة بوضوح، ويُتوقَّع منهم الحفاظ على مسافة اجتماعية ومهنية مناسبة مع نظرائهم ومع أشخاص أعلى أو أدنى في التسلسل الهرمي.

نحن على دراية بالثقافة الإدارية التي تتوافق عادةً مع هذا التصميم. فإذا كان العمل يفسر هذا التحديد الدقيق للأدوار، فنحن نقبله لأنه فاعل حتى وإن كانت سمته غير الشخصية تجعلنا نسميه بيروقراطية (وربما نتضايق منه). ولكن نقطة الضعف الأساسية في علاقات المستوى 1 تتمثّل في أن المسافة بين الأدوار وحتى داخلها تجعل من السهل جدا عند المستويات كلها تجنب التواصل المفتوح وشيوع عدم الثقة. ويصبح عدم التحدث أسهل وأكثر أماناً عند اعتبار المنافسة المهنية أمراً مسلماً به في نظام هرمي مصمم وفق إطار صلب. وهذا يجعل المؤسسة عرضة للعجز في الجودة والسلامة ورضا العملاء والابتكار. ويمكننا اعتبار المستوى ناقص 1 علاقات قوة والمستوى 1 علاقات دور، والتأكيد على أن أيّاً منهما لن يعمل في المستقبل.

وبدلاً من ذلك، سنحتاج إلى المستوى 2، الذي يمكن وصفه بالعلاقات الشخصية. ونرى هذه العلاقات الآن في تطور ما أسماه علماء الاجتماع بالمؤسسة غير الرسمية Informal organization، حيث يشكل الموظفون والمديرون روابط أوثق لإنشاء تواصل أفضل وثقة أكبر. وفي العلاقات من المستوى 2، يختار الأشخاص التعامل مع بعضهم بعضاً كبشر كاملين، وليس مجرد شاغلي أدوار، ما يؤدي إلى انهيار المسافة النفسية حتى عبر الحدود الهرمية، كما يحدث عندما يقيم مسؤول تنفيذي كبير علاقة شخصية مع مهندس مبتدئ ويكتشف من ثمَّ ما يجري بالفعل في المؤسسة.

وبعدما صار العمل أكثر تعقيداً وترابطاً، وصارت المؤسسات مجالات عضوية ومرنة للمجموعات والفرق، سيتعين على مديري الغد التعرف على موظفيهم من أجل إنشاء تواصل صالح وموثوق به وبناء الثقة في كلا الاتجاهين. وسيتعين على جميع أعضاء المؤسسة أن يشعروا بالأمان النفسي للتحدث عندما لا تعمل الأشياء، وللقيادة عندما يرون طريقة جديدة وأفضل لإنجاز شيء ما. فقد فعل ذلك دائماً كبار القادة والمديرين، لكنه لم يصبح قطُّ جزءاً ضرورياً من الثقافة الإدارية التقليدية. وهو ينبغي أن يكون.1E.H. Schein and P.A. Schein, Humble Leadership: The Power of Relationships, Openness, and Trust (Oakland, CA: Berrett-Koehler, 2018).

بيتر شاين: كانت لديك حياة مهنية طويلة في مجال الدراسات التنظيمية. هل يمكنك أن تصف الكيفية التي وصلت بها إلى تأكيدك على العلاقات في عملك على القيادة والثقافة؟

إد شاين: لنبدأ بأول وظيفة لي في الدراسات العليا. بصفتي عالم نفس اجتماعي ومسؤولاً في معهد والتر ريد لأبحاث الجيش Walter Reed Army Institute of Research، كُلِّفتُ بأن أكون جزءاً من فريق أعاد أسرى الحرب العائدين إلى الوطن من معسكرات الاعتقال في كوريا الشمالية بعد الحرب الكورية. وكانت وظيفتي تشخيص حالات سوء التلاؤم النفسي والمساعدة خلال رحلة استغرقت 16 يوماً من كوريا إلى سان فرانسيسكو. وما تسلمتُه كان عبارة عن مجموعة بيانات ضخمة تبين الكيفية التي شرّب بها الشيوعيون الصينيون في أوائل خمسينات القرن العشرين بعض السجناء المدنيين في البر الرئيسي أفكارهم، وجعلوا عدداً صغيراً من أسرى الحرب يتعاونون مع العدو ويزودون الصينيين ببعض المادة الدعائية الإيجابية . وتداخلت هذه التجربة مع اهتماماتي البحثية في الفروقات بين الأشخاص، وأوضحت تماماً ما تتضمنه علاقة المستوى ناقص 1.

يمكننا الآن أن نعتبر القيادة إنشاءً وتنفيذاً لطريقة جديدة وأفضل للقيام بشيء ما، سواء كان ذلك استراتيجية جديدة أم منتجاً جديداً أم خدمة جديدة أم طريقة جديدة للمجموعة لإدارة اجتماعاتها واتخاذ القرارات.

وقادني ذلك إلى سنواتي الأولى في كلية الإدارة الصناعية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT School of Industrial Management– وهو الاسم الذي كان يُطلَق على سلون Sloan عندما وظفني دوغلاس ماكغريغور Douglas McGregor، وهو منظّر بارز في مجال القيادة، في عام 1956 لإدخال علم النفس الاجتماعي في تدريب الخريجين على الإدارة. وأدخلني في أول مجموعة من «المجموعات الساخنة» Hot groups التي كانت تتشكل هناك. فعملت مع وارن بينيس Warren Bennis وريتشارد بيكارد Richard Beckhard، اللذين صارا مرشدين رئيسيين في تعريفي بالتعلم التجريبي Experiential learning. وطورت مختبرات التدريب على العلاقات البشرية التي نشأت عن أبحاث ديناميكيات المجموعات لكورت لوين Kurt Lewin في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا طوَّرت أساليب التعلم التجريبي لمساعدة المديرين على تطوير مهارات مراقبة وإدارة العمليات الجماعية والعمليات بين الأشخاص وإدارتها. وبعد بعض المقاومة الأولية، لأنني اعتقدت أنني كنت أعرف هذه الأشياء كلها بالفعل، اكتشفت أن التعلم التجريبي كان أقوى بكثير من التعلم من خلال المحاضرات والقراءات ودراسات الحالة، وأنني أستطيع أن أكون مدرباً فاعلاً لهذه المجموعات. وفي هذه المجموعات التدريبية رأيت الكيفية التي يمكن بها يمكن لعدد من الغرباء أن يتحركوا بسرعة كبيرة من علاقات المستوى 1 إلى علاقات المستوى 2.

بعد ذلك افترضتُ أن جوهر الإدارة الجيدة والقيادة الجيدة كان قدرة الأشخاص في تلك المناصب على مراقبة العلاقات التي تربطهم برؤسائهم ومرؤوسيهم ونظرائهم وإدارتها وفهمها ورغبتهم في ذلك. واعتبرتُ أن من المفروغ منه أن المستوى 2 كان العلاقة المناسبة بين المدير والموظف قبل وقت طويل من تصنيفها على هذا النحو. وفي الآونة الأخيرة فقط رأيت الحاجة إلى نموذج واضح لأعماق العلاقات يعكس الكيفية التي يدربنا بها المجتمع جميعاً كبالغين لتمييز العلاقات الاستغلالية والبيروقراطية والشخصية والحميمية.

سيتعين على جميع أعضاء المؤسسة أن يشعروا بالأمان النفسي للتحدث عندما لا تعمل الأشياء، وللقيادة عندما يرون طريقة جديدة وأفضل لإنجاز شيء ما.

وبينما كان هذا كله يحدث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، علمت أن المؤسسات تقدّر جزءاً كبيراً مما كنا ندرسه. وسيستعينون بنا لإلقاء محاضرات وتقديم خدمات استشارية للمساعدة على حل مشكلاتهم المهنية والإدارية والقيادية. ولم تكن ثمة قفزة كبيرة في نقل اهتمامي من مَذْهَبَة Indoctrination إلى المسألة المتعلّقة بكيفية تمكن الشركات من التأثير في موظفيها الجدد لتبني نظام القيم المؤسسية.

بيتر شاين: كيف يرتبط هذا كله بمساهماتك في مجالات التطوير الوظيفي وإدارة المواهب وأفكارك حول الثقافة؟

إد شاين: وجدتُ العديد من الأمثلة على الأثر المؤسسي القوي في أبحاثي، لكنني وجدت أيضاً أن الأشخاص يمكنهم بسهولة مقاومة هذا الأثر من خلال ترك شركة ما أو ترك صناعة ما تماماً ليصبحوا مدرسين أو مستشارين. وأدى ذلك إلى دراسة نقاشية رئيسية تابعت فيها 44 من خريجي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، واكتشفت أن الموظفين في السنوات العشر إلى العشرين الأولى من حياتهم المهنية، يستخدمون خبراتهم لبناء صورة عن ماهيتهم، وما الذي يدفعهم، وما الذي يجيدونه، وما هي قيمهم المركزية، وهذه الأمور صارت تُسمَّى المرساة الوظيفية Career anchor. وبمجرد تطوير الخريجين المشاركين في النقاش صورة ذاتية كهذه، رسَّخت قراراتهم المهنية ونظمت حياتهم العملية.

ولمواصلة دراسة هذه المسائل، فقد انضممت إلى لوت بايلين Lotte Bailyn وجون فان مانين John Van Maanen، اللذين عملت معهما بصورة مكثفة لأكثر من عقدين على التطوير الوظيفي، ودور المرأة في مكان العمل، والحياة المهنية المزدوجة Dual careers، والتوازن بين العمل والحياة، ومختلف المواضيع ذات الصلة التي شكلت معاً تقريباً مجال التطوير الوظيفي. وشكلت وجهات نظرنا المختلفة وقدرتنا على العمل بشكل وثيق معاً طوال ربع قرن مثير من بناء نماذج التي استندت بالتساوي إلى علمي النفس والاجتماع.

مع تقدم المؤسسة في العمر تُطور معتقدات قوية حول أنواع المواهب المطلوبة ولا توظف سوى هذه المواهب. وتصبح إدارة المواهب عملية دقيقة من عمليات الثقافة التي تعيد إنشاء نفسها فقط.

ونبعت معظم أعمالي الاستشارية في السنوات الأولى من اهتمامي بالتطوير الوظيفي، ومن وجهة النظر المؤسسية، التنشئة الاجتماعية للموظفين الجدد وإدارة المواهب. وكتبتُ ورقة حول الكيفية التي كانت بها الوظيفة الأساسية لإدارة شؤون الموظفين، التي كانت تُسمَّى بالفعل العلاقاتِ البشريةَ في ذلك الوقت، المهمة الصعبة المتمثّلة في مطابقة احتياجات الموظف الفرد مع احتياجات المؤسسة. وكان علماء الأنثروبولوجيا قد طبقوا مفهوم الثقافة على المجتمعات السابقة لمعرفة القراءة والكتابة والمجتمعات الحديثة لفترة طويلة، لكنه صار من الواضح لي أن ما درّسته الشركات لموظفيها الجدد يمكن وصفه أيضاً بأنه ثقافة الشركة. ولاحظت بعد ذلك كيف أن كل مؤسسة ناشئة لديها نظام قيم قوي يجب أن يتناسب مع الموظفين الجدد. وإذا نجحت المؤسسة، سرعان ما سُلِّم بما اعتُبِر قيم المؤسسين الأساس لنجاح المؤسسة ولم يمض وقت طويل قبل أن يصبح الثقافة التنظيمية. ولاحظتُ أيضاً أن عملية بناء نظام قيم أساسي قد تطورت حوله قواعد ومعايير سلوكية لم تعد تنطبق فقط على المؤسسات بل أيضاً على مختلف الوظائف والمهن – الهندسة والطب والقانون ومختلف أشكال الوزارات وما إلى ذلك.

وشعرتُ خلال عدة سنوات بأن دراسات التنظيم Organization Studies في سلون وفي معظم مدارس الأعمال يهيمن عليها علم النفس. ومع انضمام جون فان مانين John Van Maanen، تمكنا من توسيع تركيزنا ووضع برنامج دكتوراه حول الأساليب الإثنوغرافية. وأدى ذلك إلى ظهور سلسلة من حملة الدكتوراه الذين أخذوا وجهة النظر هذه إلى العديد من المدارس الرئيسية الأخرى للأعمال وجلبوا تدريجيّاً تبصرات اجتماعية وأنثروبولوجية كان هذا المجال في حاجة ماسة إليها.

وأدركنا أن التنشئة الاجتماعية للموظفين كانت في الأساس العملية نفسها حين تُعلِّم مجموعة من أعضاءَها الجدد ثقافة تلك المجموعة. ومن أجل أن تبرر استمرارها وتنمو، كان على المؤسسة أن توظف موظفين من الأنواع الصحيحة من المواهب والمهارت الوظيفية Career anchors وتدربهم.

بيتر شاين: في هذا المعنى، كانت الثقافة والقيادة مترابطتين لفترة طويلة.

إد شاين: يحدد المؤسسون ورواد الأعمال الاتجاه أثناء تشكيلهم لمؤسساتهم الجديدة، فينشئ القادة بوضوح الثقافة منذ البداية. ولكن مع نضوج تلك المؤسسات، تحدد ثقافاتها نوع القادة الذين تختارهم. فهي تطور فكرة واضحة جدّاً عن القيادة التي من المفترض أن تكون في تلك البيئة، وتختار أشخاصاً لشغل وظائف عليا يتطابقون مع هذه الصورة التعريفية Profile هذا. ويحدث الشيء نفسه في الرتب كلها. فالمؤسسة الشابة تعتمد على مجموعة متنوعة من المواهب لتحقيق النجاح، ولكن مع تقدمها في العمر؛ تطور معتقدات قوية معبر عنها في التوصيفات الوظيفية حول أنواع المواهب المطلوبة ثم توظف هؤلاء الأشخاص فقط. وعندها تكون إدارة المواهب في المؤسسة الناضجة جدا عملية دقيقة للثقافة التي تعيد فقط إنشاء نفسها، ولتوظيف مجرد الأشخاص الذين «يتناسبون» مع الثقافة التقنية (كيفية إنجاز المهام) والثقافة الاجتماعية (كيفية إقامة العلاقات في مؤسسة). وعندما تتغير البيئة الخارجية أو الثقافة الكلية، تصل المؤسسات إلى لحظة الحقيقة: نحتاج إلى الابتكار، لكن لا يمكننا أن نجعل موظفينا يفعلون ذلك! وإذا فهمنا الكيفية التي تعمل بها الثقافة، لا ينبغي أن يمثّل ذلك مفاجأة، واكتشف بعض المؤسسات الكبيرة بالفعل كيفية الابتكار، جزئيّاً عن طريق منح وظائف البحث والتطوير الخاصة بها حرية تطوير ثقافتيها التقنية والاجتماعية.

لكن يكفي ما قلناه حول كيفية وصولنا إلى ما نحن عليه…. بيتر، لقد كنتَ هنا في سيليكون فالي منذ الأيام الأولى للإنترنت. وهو أحد تلك الأماكن التي تتعلّق حتماً يبعث بتحديد المستقبل أكثر من قبوله. وبينما نفكر في نظرتنا التكاملية للمؤسسات، ما الذي تراه هنا ويعطيك الأمل أو يبعث القلق حول مستقبل التنظيم؟

بيتر شاين: من دون إعطاء شركات التكنولوجيا الجديدة كثيراً من الفضل، أقول إن من الصحيح أن المبتكرين هنا أحدثوا ثورة في أدوات العمل وعملياته. وهناك الكثير من الأمثلة. ومصطلحات مثل الاقتران الفضفاض Loosely Coupled والتواؤم المحكم Tightly Aligned والفشل السريع Fail Fast ومجال تشويه الواقع Reality Distortion Field والصراحة المتطرفة Radical Candor؛ كلها نقاط صغيرة من الضوء في سماء الليل المعقدة تعكس فكرة بسيطة مفادها بأننا نستطيع أن نعمل بشكل أذكى.

يصف صديقنا وزميلنا في معهد ببالو ألتو للمستقبل Palo Alto.Institute for the Future، بوب جوهانسن Bob Johansen، المؤسسات «المغيرة للشكل» Shape-shifting في المستقبل، راصداً الفكرة الأساسية المتمثّلة في أن المخططات التنظيمية الثابتة صارت في أحسن الأحوال رجعية في عام 2019.2B. Johansen, The New Leadership Literacies: Thriving in a Future of Extreme Disruption and Distributed Everything (Oakland, CA: Berrett-Koehler, 2017). ويمكن رؤية فكرة تغيير الشكل هذه في الإدارة الذاتية Holacracy، وهو جهد مثير للاهتمام من جانب متاجر التجزئة لبيع الملابس على الإنترنت زابوس Zappos وغيرها من المؤسسات لإطلاق سراح الابتكار من المعايير التقليدية للقيادة والتحكم.3B.J. Robertson, Holacracy: The New Management System for a Rapidly Changing World (New York: Henry Holt, 2015). وبالنسبة إلى عدد كبير، قد يكون هذا الأمر شديد التطرف. وقد تعتبره شركات عالمية متعددة الأوجه غير ذي صلة. لكن بشكل قاطع، لا يوجد سبب وجيه يمنع أفكار الإدارة الذاتية – وهي مجرد نهج واحد للحصول على فرق ديناميكية، ومخصصة، ومدارة ذاتيّاً – من أن تكون مبدأً تنظيميّاً للمؤسسات من أي حجم، على افتراض أن كبار قادتها وقادتها الرئيسيين كرسوا المستوى 2 من الثقة والانفتاح، وهم مستعدون للتخلي عن التحكم الهرمي. وأعتقد أن التعامل مع درجات من التحكم في مقابل درجات من الحرية هو نضال مركزي لشركات ابتكارية شابة تحاول أن تنضج كشركات فائزة متعددة المنتجات ومتعددة الأقسام وبعيدة الأمد.

وهناك تطور آخر مثير للاهتمام وهو شعبية الأهداف والــنـتـائـج الــرئـيسـيــة Objectives and key results (اختصارا OKRs)، لمساعدة المؤسسات على إحراز تقدم في تحقيق أهدافها. فثمة مجموعة من بائعي برمجيات الموارد البشرية، من أتيم Atiim إلى ويكدون Weekdone، تقدم منصات إلى الأفراد والفرق من أجل أن يشاركوا أهدافهم ونتائجهم الرئيسية مع زملائهم، وفق النظرية التي تقول إن كل شخص يستفيد من معرفة المكان الذي يقف فيه الجميع. ويُعَد هذا النموذج التكرار الأحدث لبنية اجتماعية وتقنية مألوفة تسعى إلى ربط الأهداف والتطلعات الخاصة بجميع الأفراد في مجموعة عمل، أو مؤسسة ككل، بالضرورات الاستراتيجية الرئيسية للمؤسسة. وتتضمن الأهداف والنتائج الرئيسية مشاركة الأولويات والمشاريع والتقدم صعوداً وهبوطاً واستقراراً. واستخدمها آندي غروف Andy Grove خلال عمله رئيساً تنفيذيّاً لإنتل Intel، وأدخلها صاحب رأس المال الاستثماري جون دوير John Doerr إلى غوغل Google.4J. Doerr, Measure What Matters: How Google, Bono, and the Gates Foundation Rock the World With OKRs (New York: Portfolio/Penguin, 2018). وتكمل المحادثات والملاحظات والتعرف Conversations, feedback, and recognition (اختصارا: المقاييس CFRs) الأهداف والنتائج الرئيسية. ومع هذه الضرورة اللازمة على صعيد المحادثات، يُعاد صياغة إطار الإدارة والتحكم بمصطلحات أكثر إنسانية ومع ما يبدو أنه قيم أكثر إنسانية.

وقد نتوصل إلى تقدير كون السر هنا يكمن في ربط المنافع التقنية الظهور Visibility والقدرة على التوقع Predictability والمسـؤولـية Accountability بالمـنـافـــــع الاجتماعية للمشاركة والإشراك. وقد يمثّل ذلك خطوة إيجابية إلى الأمام، على الرغم من أنه ربما لن يعالج مغالطة الشفافية Transparency Fallacy. وقد تبدو الشفافية منفعة إنسانية للقضاء على الأسرار والأبحاث السرية، لكنها قد تكون ذات قيمة فقط عندما تكون متطلّبا في مجموعة أو مؤسسة تفتقر إلى الانفتاح والثقة. ومرة أخرى، نرى النضال بين الحرية والتحكم. وترصدها بالمثل مفارقة المحادثات والملاحظات والتعرف. فإذا كان الهدف الأساسي هو المشاركة في شكل مفتوح لما يجري بشكل جيد وما يجب تغييره، فقد تكون المحادثات والملاحظات والتعرف فاعلة جدا في تسريع النتائج. ولكن إذا كان التركيز يتعلّق أكثر بتقديم الملاحظات، فقد تكون المحادثات والملاحظات والتعرف مجرد قشرة تغطي الدافع الأعمق للتحكم التنازلي من أعلى إلى أسفل Top-down control.

ذكرت في وقت سابق الأهمية التي تضعها المؤسسات على السرعة. وإذا تعلمنا أي شيء في مهد الابتكار، فهو أن الوتيرة هي ما يهم بالفعل. وقد تعمل الابتكارات الاجتماعية – التقنية لإعادة تنشيط النزعة الإنسانية في العمل الإبداعي، لكن إذا أبطأت ابتكارات تتعلّق بالإجراءات الوتيرة، يمكننا أن نتوقع أن الهدف الكبير التالي سيستهدف تسريعنا مرة أخرى. وقد يجد قائد جديد طريقة لعمل شيء جديد وأفضل، طريقة مبنية على الثقة والانفتاح والتأمل. ونعتقد أن هذا يحدث كثيراً (كما يلاحظ فريدريك لالوكس Frederic Laloux، قائلاً: «هناك شيء ما في الهواء»).5F. Laloux and E. Appert, Reinventing Organizations: An Illustrated invitation to Join the Conversation on Next-Stage Organizations (Brussels, Belgium: Nelson Parker, 2016), 161. ولكن أحد التوجهات المعاكسة التي ستواجهها المؤسسات أثناء سعيها إلى تكييف ثقافتها الاجتماعية يتمثّل في التفضيل الثقافي الكلي للسرعة على التأمل. وهذه القوى في توتر مستمر. وسيحتاج كبار القادة، ولاسيما أولئك الذين يشرفون على التطوير التنظيمي، إلى الاستمرار بالتفكير مثل الإثنوغرافيين والمراقبين المشاركين للتوصل إلى المزيج الصحيح.

التعامل مع درجات من التحكم في مقابل درجات من الحرية هو نضال مركزي لشركات ابتكارية شابة تحاول أن تنضج كشركات فائزة متعددة المنتجات ومتعددة الأقسام وبعيدة الأمد.

لذلك، إد، هذا يثير ملاحظةً وسؤالاً أخيرين: لأسباب كثيرة وجيدة، تطور التطوير التنظيمي في شكل كبير منذ كتابك الأول عن الثقافة والقيادة، ولاسيما في مساعدة المؤسسات على قبول حقائق جديدة وتجربة أساليب جديدة. إلى أين نذهب من هنا؟

إد شاين: الاتجاهات في مجال التطوير التنظيمي لعدة عقود كان لها مجموعاتها الكبيرة من الباحثين والممارسين، وشهدنا تطورات إيجابية على مدى العديد من الأبعاد. ومن الجيد وجود اهتمام متزايد بإدارة التغيير، مما يعكس الطبيعة المتغيرة للعمل نفسه. وأشعر بسعادة غامرة لرؤية الكثيرين يشاركون في مجال الثقافة، على الرغم من أنني أحذر من أن البعض قد يفتقر إلى أسس كافية في ديناميكيات الثقافة.

وتنتشر الحاجة إلى الانفتاح والثقة في هذه المجالات كلها. ولكن كثيراً من نماذج اليوم للقيادة والتغيير والثقافة لا تزال مبنية على افتراض مفاده أن علاقات المستوى 1 – البيروقراطي والبعيد مهنيّاً – قد تنجح. ولكن لا يمكنها أن تنجح. وهناك نماذج أخرى تتحدث عن أهمية الثقة المتبادلة لكنها لا تحدَّدها ولا تقترح كيفية بنائها.

فالثقة تحدث من خلال التبادل الحيوي للمعلومات والمشاركة المفتوحة، في حين نبني علاقات تسمح لنا باستشعار ردود بعضنا بعضاً واستباقها، حتى نتمكن من الاعتماد على أن الخطوات التالية لبعضنا بعضاً ستكون داعمة وتعاونية بدلاً من تنافسية وساعية إلى خدمة نفسها. ويساعدنا بناء الثقة على العمل بشكل إيجابي باتجاه أهداف محدَّدة في شكل متبادل. فهو يتسم بالتعزيز الذاتي؛ وللوصول إلى الأهداف، فإننا نحتاج إلى علاقات من المستوى 2.

باختصار، تكون النظرية الإيجابية للانفتاح والثقة عند المستوى 2 هي الغراء المفاهيمي الذي يربط بين الثقافة والتغيير والقيادة. فقد قطعنا شوطاً طويلاً، لكن لا يسعني إلا أن أتأمل المفارقة الصغيرة، إذ نأمل بأن يكون هذا كله هو ما دار في ذهن دوغلاس ماكغريغور طوال الوقت في النظرية واي Theory Y التي وضعها باعتبارها الأساس للجانب البشري من المؤسسات.6D.A. McGregor, The Human Side of Enterprise (New York: McGraw Hill, 1960).

Edgar H. Schein أستاذ فخري في

Edgar H. Schein أستاذ فخري في

إدغار إتش. شاين كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT Sloan School of Management.

بيتر إيه. شاين Peter A. Schein

بيتر إيه. شاين Peter A. Schein

هو مستشار استراتيجي في سيليكون فالي. وهما مؤلفا كتاب القيادة المتواضعة: قوة العلاقات والانفتاح والثقة Humble Leadership: The Power of Relationships, Openness, and Trust (Berrett-Koehler، 2018). ويقدم كتابهما الجديد، الطبعة الثالثة من دليل بقاء الثقافة المؤسسية: قيادة تغيير الثقافة The Corporate Culture Survival Guide: Culture Change Leadership (يصدر قريباً)، صياغة قوية للحاجة إلى نماذج جديدة للإدارة والقيادة. للتعليق على الموضوع http://sloanreview.mit.edu/x/60415.

المراجع

المراجع
1 E.H. Schein and P.A. Schein, Humble Leadership: The Power of Relationships, Openness, and Trust (Oakland, CA: Berrett-Koehler, 2018).
2 B. Johansen, The New Leadership Literacies: Thriving in a Future of Extreme Disruption and Distributed Everything (Oakland, CA: Berrett-Koehler, 2017).
3 B.J. Robertson, Holacracy: The New Management System for a Rapidly Changing World (New York: Henry Holt, 2015).
4 J. Doerr, Measure What Matters: How Google, Bono, and the Gates Foundation Rock the World With OKRs (New York: Portfolio/Penguin, 2018).
5 F. Laloux and E. Appert, Reinventing Organizations: An Illustrated invitation to Join the Conversation on Next-Stage Organizations (Brussels, Belgium: Nelson Parker, 2016), 161.
6 D.A. McGregor, The Human Side of Enterprise (New York: McGraw Hill, 1960).
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى